فكر

ما الذي يمنع الناس من قبول الحق؟

بعد الرد على مئات الادعاءات على مدى سنوات عدة، وصلت إلى قناعة بأن استيعاب حقيقة أي ادعاء لا يحتاج عقلاً مدركاً للأساسيات المرتبطة بالادعاء فقط، بل يحتاج أيضاً إلى استعداد نفسي وقلبي.

قد يظن البعض -وحتى ممن يعملون في مجال تقصي الحقائق- أن وجود الدليل القاطع الواضح كافي لوحده بالضرورة إلى التصديق والإيمان به، وهذا خاطئ، فوجود الدليل غير كافي عند كل من ينظر فيه، خصوصاً عند الحديث عن الأمور الكبرى، لا لأن هناك أذكياء وأغبياء فقط، بل لأن هناك من ليس لديه استعداد نفسي وقلبي للقبول بنتيجة هذا الدليل القاطع الواضح.

فعرض الحقيقة وحدها لا يكفي لجعل المتلقي يؤمن بها، بل سيقع في أول فخ يتعرض له إن لم يتحقق فيه هذا الاستعداد، وهذا حصل مراراً في مواقف عدة مع أشخاص أعرفهم رغم تكرار تعرضهم للحقيقة الغير قابلة للنقاش.

فالوعاء الذي سيُملئ لا بد أن يكون جاهزاً لتلقي ما يُسكب فيه، أي أن المتلقي لا بد أن يكون لديه عقل وقلب جاهزَين لتقبل الحقيقة.

بل وإن البعض قد يصل إلى نتائج عكسية ومناقضة لما يشير إليه الدليل -إن لم يكن مستعداً-، وهذا بدا واضحاً في الجدال الحاصل بعد نشر صور تلسكوب جيمس ويب، فالبعض “نطق الشهادة” والبعض زادته إلحاداً إلى إلحاده، وبالتالي نحن بحاجة لوجود كلا الأمرين لا أحدهما، الدليل الصحيح الواضح، والاستعداد النفسي لدى المتلقي، ولا يتم الأخير إلا باستصلاح العقول والنفوس، وهذا بالضبط ما ترنو إليه هذه المبادرة، وأسأل الله أن يبلغنا فيها ما يحب ويرضى.

وهذا الأمر لا يرتبط بعامة الناس فقط، بل يشملهم جميعاً، حتى الجهابذة والعلماء ومن هم في قمة الهرم الأكاديمي، ولعل أبرز ما يشير إلى ذلك كلام البروفيسور روبرت جاسترو مؤسس معهد جودارد لدراسات الفضاء التابع لوكالة ناسا بعدما ظهرت نظرية الإنفجار العظيم، -التي تعتبر أصح نظرية علمية تتحدث عن الكون ونشأته- والتي جعلت بعض العلماء يشعرون أن فيها نَفَساً دينياً، بما يخالف ما وقر في نفوسهم وقلوبهم، فرغم تمسكهم بالعقل العلمي الموضوعي، وجدوا حرجاً في قبول الدليل العلمي التجريبي الذي لطالما نادوا به:

“يسعد اللاهوتيون عموماً بدليل أن للكون بداية، بينما علماء الفلك مستاؤون، وتُعتبر ردود أفعالهم نموذجاً مثيراً لاستجابة العقل العلمي، والذي يفترض أنه عقل موضوعي جداً، عندما تؤدي الأدلة المكتشفة بالمنهجية العلمية نفسها إلى تصادم بين بنود الإيمان وحياتنا المهنية (كعلماء تجريبيين)، ويبدو أن العالِم يتصرف بنفس الطريقة التي نتصرف بها جميعا عندما يتصادم إيماننا بالأدلة، فإما أن ننزعج أو نتظاهر بعدم وجود تصادم أو نخفيه بعبارات لا معنى لها”

Jastrow, God and the Astronomers, 16. Cited in: Norman L. Geisler & Frank Turek: I Don’t Have Enough Faith to Be an Atheist (Kindle Locations 1468-1474). Crossway. Kindle Edition.

ويندرج تحت هذا الاستعداد عدة أمور لا بد من إصلاحها ليتحقق بالشكل المطلوب، أهمها التخلص من الكِبر، والاستسلام للدليل بعد ثبوته بغض النظر عمن صدر، فنجد من يرفض الحق إذا أتاه من شخص أصغر منه أو أقل منه أكاديمياً، فترى الكِبر يبني جداراً سميكاً عازلاً لا يسمح لصاحبه رؤيةَ الحق، “فمن هو حتى يصحح لي؟ من هو حتى يعرف أكثر مني؟ وأنا فلان معي درجة كذا في الاختصاص الفلاني”.

وقد يتصور أحدهم أن العدول عن الرأي إذا ثبت بطلانه هو ضعف وهزيمة، ويقلل من قيمة الإنسان في نظر من حوله، وهذا بعيد عن الحكمة، التي هي ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

ولذا أردت في هذه المبادرة محاولة حل هذه المعضلة -تسهيل قبول الناس للحق- وتحقيق التوازن المطلوب، بين العقل والقلب، فالوعي هو الرابط بين العقل والقلب، ولا يتشكل إلا إذا كانا متوافقين، متوازنين لا يميل أحدهما على الآخر، ومن ثم إن مال شده الآخر وصحح تموضعه.

ففي قسمها الرئيسي “تقصي الحقائق”، نمكّن التفكير النقدي والشك المنهجي للوصول إلى الحقائق المدعمة بالأدلة والبراهين الصحيحة، بما يتناسب مع عصرنا وتقنياته الحديثة وهي الوسط الرئيسي لانتشار التضليل، ما جعلني أُنشئ القسم الثاني.

فالوعي الرقمي بالتقنيات الحديثة منخفض جداً -رغم انتشار أدواتها- عند السواد الأعظم في مجتمعنا العربي عموماً والمحلي خصوصاً، ولا تكاد تخلو جلسة أقدمها عن الوعي الرقمي إلا وأسمع فيها من الطلاب العجب العجاب، انطلاقاً من الجهل فيها وسوء استخدامها، وصولاً للتهديدات الأمنية المادية والمعنوية التي تواجه الكثيرين.

وتعتبر علوم الفضاء والفلك من أكثر المجالات التي يستغلها الكذابون في تضليل العامة، وتوجيههم أينما أرادوا، وحديث الأبراج من أوضح الأمثلة على ذلك، ولذا كان القسم الثالث.

ويأتي “الفكر” للحديث عن المفاهيم العامة بما يساهم في تشكيل الوعي اللازم، بالنظر إلى جوانب مختلفة في المجتمع، ليكون المظلة العامة لما ورد في الأقسام الآخرى وضمن سياقها.

وهذا بمجمله سيكوّن بعون الله مناعة لدى القارئ بحيث لا يقبل أي ادعاء غير مدعوم بدليل مقبول، منطقي على الأقل، ويصبح فاعلاً لا مفعولاً به، ويوفر جهوداً كبيرة من التدقيق والتحقق فلا يبقى هناك حاجة للتحقق من توافه الادعاءات الكاذبة التي للأسف الشديد ما زلنا ندققها إلى يومنا هذا، فتوجه الجهود نحو ما هو معقد والأكثر إلحاحاً.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى