في السابع عشر من نيسان الفائت، نشر الحساب الرسمي لقوات الدعم السريع على فيسبوك صورة ادّعى أنّها تظهر إسقاط طائرة مقاتلة تابعة للجيش السوداني، تلقفت الصفحات والحسابات المؤيّدة لتلك القوات الصورة نقلاً عن الحساب الرسمي، الذي عدّل المنشور واستبدل الصورة بغيرها بعد عدة ساعات.
وقتها سارعت منصات التحقق لنشر مقالات تبين زيف هذا الادعاء، زاعمةً أنّ الصورة تظهر طائرة حربيّة سوريّة أسقطت في آذار من عام ٢٠٢٠.
معتمدةً على النتائج الأولى التي تقدّمها محركات البحث عند استخدام تقنيات البحث العكسيّ للصور، وهي الطريقة المعتادة التي تستخدم عادةً لمعرفة فيما إذا كانت الصورة منشورة على الإنترنت في وقت سابق، وتصدرت النتائجَ التي تؤكّد هذا الزعم مقالةٌ نشرت في موقع الغد الأردنيّ الإخباريّ تضمنت الصورة المتداولة.
تبنّى هذه النتيجة عدة منصات ومواقع متخصّصة في مجال تقصّي الحقائق، حينها تتبعتُ الخبر، وقمتُ بإجراء البحث العكسيّ للصورة المرافقة للادّعاء من خلال محركات البحث وفعلاً وجدت عدّة مواقع إخباريّة تؤكّد هذا الاستنتاج، إلا إنّني لم أكن راضياً عنها، فشكل الطائرة لا يوحي بأنّها طائرةٌ حربيّةٌ سوريّة، فهي صغيرة الحجم وجناحاها ليسا كأجنحة الطائرات الحربية السوريّة، وهي إمّا من طراز ميغ أو سوخوي، وفقاً لتقرير FlightGlobal.
لذا لم أكتفِ بالنتائج الأولى والمتصدّرة، وتتبعتُ بقيّة النتائج المرتبطة عبر عدّة محركات بحث، و بالفعل وصلت إلى صورة أكثر وضوحاً، نُشرت على موقع إخباري تركي بتاريخ 1 آذار/مارس 2020، في مقال تحدّث عن خبرٍ متداولٍ في ذلك الزمن وهو سقوط طائرة تابعة للحكومة السوريّة.
ما يميّز هذه الصورة عن غيرها أنّها احتوت على معلومات تدلّ على أصلها، فقد تضمّنت مكان وتاريخ التصوير وأيضاً اسم المصور، وتلك المعلومات غاية في الأهميّة تساعد بشكل كبير في الوصول إلى الحقيقة الكامنة وراءها.
وبالبحث في مواقع التواصل الاجتماعيّ بالاستفادة من المعلومات المذكورة نصل إلى حساب الشخص الظاهر اسمه في الصورة وهو أحمد غجر، وبتتبع حسابه على فيسبوك نجد أنّه نشر في نفس اليوم المذكور وهو الأول من آذار/مارس 2020 منشوراً نبه فيه إلى أنّ الطائرة المضروبة والظاهرة في الصورة هي طائرة استطلاع تركيّة، وليست طائرة حربيّة سوريّة، مشيراً إلى أنّ القوات الحكوميّة هي من أسقطت الطائرة المسيّرة التركيّة التي كانت تحوم فوق سماء إدلب في ذلك الوقت، وهو ما أكّدته وكالة سانا الرسميّة لاحقاً.
وللتحقّق من صحّة النتيجة الأخيرة تواصلتُ بشكل مباشر مع المصوّر لمعرفة حقيقة الصورة فأكّد لي أنّ النتيجة صحيحة، وبأنّها طائرة استطلاع تركيّة، وليست طائرةً حربيّةً سوريّةً.
تأخُّر نشر هذا التحقيق كان لسببين، أوّلهما هو تأخُّر المُصوّر في ردّه، والثاني إمهال هذه المنصات التي تواصلنا معها جميعها لعلّها تُعدّل أو تنشر تصحيحاً تُبيّن فيه خطأ النتيجة التي وصلوا إليها، وهو ما لم يحدث حتى الآن سوى مع منصة فتبينوا، التي أضافت تحديثاً متواضعاً قالت فيه أنه “لم يتسنَّ للفريق التحقق من سياق الصورة بشكل قاطع”، رغم إرسال التفاصيل السابقة لهم بكل وضوح.
وحقيقةً وللأمانة، ما يهمني في هذا المثال العمليّ ليس تتبع الزلات أو السقطات، بل توعية جميع الأطراف بأنّ مثل هذه الأمثلة تتكرّر من حين لآخر ومع الجميع، فلا أحد فوق النقد، ولا أحد معصوم.
وصحيح أنّ هذا النقد يُسبّب ضغطاً على مشرفي منصات التحقق -فهو يضرب في صلب مصداقيتها، وهي حقاً رأس مالها الحقيقي-، إلا إنّه ضغطٌ إيجابيٌّ، حيث يدفعها لبذل المزيد من الوقت والجهد لتدقيق التفاصيل كافّة -وبالأخص الخلاصة- عدّة مرات قبل نشرها للعامّة، لكشف أيّة أخطاء أو نقاط ضعف فيها، ما يعني المزيد من الضبط والإتقان، وهو ما تسعى إليه الأطراف كافّة، على رأسها عامّة المتابعين.
الذين يجب أن يكون تفكيرهم النقدي فعّالاً دائماً في كلّ الحالات دون استثناء، وعدم قبول النتيجة التي تقدّمها كما هي دون أدنى شكّ فيها.
ومن المهمّ أيضاً الإشارة إلى أنّه يجب على مَن يسعى لمعرفة أصل أيّ ادّعاء عدم الاعتماد على ما تُصدره لنا محركات البحث من نتائج، فهي أدوات بحث لا أدوات تحقق، ومن المعلوم تأثّر هذه النتائج بعدة عوامل تجعلها تختلف من مستخدم لآخر، أبرزها الموقع الجغرافيّ وسجل البحث والمواقع الإلكترونيّة التي يتردّد عليها المستخدم، وأيضاً الإعلانات المموّلة، وبالتالي فكلّ مستخدم سينتهي باستنتاج مختلف عن غيره إذا ما اعتمد النتائج المتصدّرة، وهذا ما لا يمكن قبوله، فالحقيقة واحدة، ولعلّ أفضل ما يصف هذه الحالة هو المثل العربي الشهير: “في العجلة الندامة وفي التأني السلامة”.
ولا مانع من الاطلاع على خلفياتها وتوجهاتها، فليس كلّ من ادعى الاستقلالية مستقل، ولا كل من ادعى الحيادية حيادي.
ولابدّ من إعادة الخطوات التي قامت بها المنصات للوصول إلى الحقيقة فيما إذا كانت النتائجُ مشكوكاً فيها،
فلربما أعيد نشر الصورة نفسها أو المقطع ذاته في سياق تضليليّ آخر في وقت لاحق، ومن ثم يعتمد الناس على نتيجة التحقق القديمة والمضللة، ما يعني ضياع الحقيقة شيئاً فشيئاً، وهو ما يجب على كل شخص الحذر منه ومنع حصوله، خصوصاً من يتبنّى رسالة تقصي الحقائق.
وهذا يبرز أهميّة شرح كيفية الوصول إلى هذه النتيجة، فهو مهم بقدر أهميّة النتيجة، وكذلك سياق الأحداث المرتبطة بها، فمن الوارد أن تُفهم النتيجة على غير حقيقتها إذا عُزلت عن سياقها الأصلي أو رُكِّبت في سياق آخر مضلل.
فتلك الشفافيّة هي التي ستزيد من رصيد المنصة عند المتابعين، وليس النتيجة وحدها.