نتائج الامتحانات..فرحة قد تسبب خيبة أمل!
“اليوم صار الوقت اللي بقدر بناديك فيه يا دكتورة!”
فيض من المنشورات أغرق مواقع التواصل تضمنت مباركات ومفاخرات بالطلاب الأوائل على مستوى الجمهورية والمحافظة والمدرسة والعائلة.
وزفات وحفلات صاخبة، بمبالغات ومزايدات لا طائل منها سوى الدعاية والشهرة، احتفالاً بالأول/الأولى على مستوى الجمهورية، ومن بعدهم المتفوقين، في تجاهل شبه كامل للآخرين -وهم الأغلبية-، دون اهتمام أو مراعاة لمشاعرهم وأحوالهم.
واحدة من أهم المشاكل التي يعاني منها المجتمع اليوم هو التصنيف الجائر الذي ينتهجه أفراده تجاه بعضهم البعض.
فما زلنا نرى ونسمع الإملاءات التي يفرضها الأهالي والمدرسون على الطلاب الأغرار بشكل مباشر أو غير مباشر، تدفعهم وتوجههم للدخول في مجالات معينة دون غيرها.
ولعل الحالة التي تطغى على المدرسين اليوم بعد صدور نتائج البكالوريا لهي المؤشر العام للوضع الحالي.
فنرى صفحات المدارس والمعاهد وحسابات المدرسين التي يتابعها شريحة واسعة من الطلاب أصحاب المستويات والاهتمامات المختلفة، تغص بمنشورات المدح والافتخار والدعم المخصصة فقط للطلاب الأوائل.
نجاحم وتفوقهم أمر يدعو للفخر فعلاً وبدعمهم نروح عنهم التعب الذي عاشوه طوال السنة، لكن المبالغة في هذه المنشورات والمشاعر تؤذي الآخرين دون شك!.
فهذه التصرفات تَزرع بقوة في أذهان الطلاب والطالبات جميعاً -حتى المتفوقين منهم- بأن من يدخل الطب والهندسة هو فقط من ينال القيمة الاجتماعية التي يستحقها، وما تبقى من تخصصات لا تعد سوى كليات هامشية لا تكاد تعرف أهميتها أو قيمتها أكاديمياً أو مجتمعياً.
وهذه الحالة التي وصلنا إليها ما هي إلا نتاج تراكب جهالات (تصورات خاطئة) بعضها فوق بعض، أهمها أن من يدخل الطب والهندسة كأنه دخل الجنة!
فأولاً سيحظى بمكانة اجتماعية مرموقة، وسيكون مرغوباً من الجميع، وسينادى بالدكتور والباش مهندس يَوم قبوله في الجامعة، مع أنه بالأمس كان طالب بكالوريا عادي!
في حين أن من يدخل غيرها من التخصصات -وهي صفة طاغية على التخصصات النظرية كعلم الاجتماع والتربية- هو شخص عادي لا يميزه شيء.
ويُعبر بالعامية قولهم: “منيح الله ستره نجح بالبكلوريا… شوف كيف ابن/بنت عمك/خالك دخلت طب/هندسة ونجحت بينما أنت خجلتنا نجحان شحط”
ما يدفع هؤلاء الطلاب المظلومين إلى السعي للوصول إلى القيمة التي يستحقونها بشتى الطرق، سليمة كانت أم لا.
لابد من التأكيد على أن المجتمع بحاجة الجميع دون استثناء، وليس أصحاب تخصصات معينة بذاتها، فكما يذهب الناس إلى أطباء مختصين لمعالجة أمراض البدن، هم بحاجة إلى مختصين في علم النفس لمعالجة أمراض النفس، ومختصين في علوم التربية والاجتماع لمعالجة أمراض المجتمع المتأزمة، التي كنا سنتجاوزها أو على أقل تقدير خففنا معاناتنا منها اليوم.
فلو أتيح المجال أمام الطلاب والطالبات للدخول إلى التخصصات التي يحبونها ويرغبونها دون إملاءات أو ضغوطات مجتمعية أو مادية لرأينا نهوض واسع في كافة التخصصات، ما ينعكس إيجاباً المجتمع ككل بأقل جهد ووقت، حيث تتوزع النخب على كافة الأقسام بشكل طبيعي، دون أن تحتقن في تخصص أو اثنين.
بعد كل هذا الكلام يأتي أحدهم ليسأل السؤال الخطير:
فهمنا كلامك وعرفنا أن هناك أخطاء ومشاكل، ما العمل الآن؟
لا تعمل شيء يا صديقي، يكفيني أن تعتقد وتؤمن بالكلام السابق، وهذا الاعتقاد إذا ساد سيجعل المجتمع يتوجه نحو الأفضل، فما الأهرامات العظيمة سوى لبِنات موضوعة بانتظام في مكان واحد، وما الواقع سوى خيال قديم في ذهن أحدهم.